فصل: من فوائد سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعن الأصم أن داود وعيسى بشرا بمحمد صلى الله عليه وسلم ولعنا من يكذبه، وذلك اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم. ثم فسّر المعصية والاعتداء بقوله: {كانوا لا يتناهون} وللتناهي معنيان: أحدهما وعليه الجمهور أنه تفاعل من النهي أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضًا. عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رضى عمل قوم فهو منهم ومن كثر سواد قوم فهو منهم» وذلك أن في التناهي المأمور به حسمًا للفساد فكان الإخلال به معصية وظلمًا. والثاني أنه بمعنى الانتهاء أي لا يمتنعون ولا ينتهون. والمراد لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه لأن النهي بعد الفعل لا يفيد، أو المراد لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله وأحضروا آلاته، أو لا ينتهون أو لا ينهون عن الإصرار على منكر فعلوه. ثم عجب من سوء فعلهم مؤكدًا بالقسم المقدر فقال: {لبئس ما كانوا يفعلون} ثم لما وصف أسلافهم بما وصف شرع في نعت الحاضرين بأن كثيرًا منهم يتولون المشركين والمراد كعب بن الأشرف وأصحابه حين استجاشوا المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مر في تفسير سورة النساء عند قوله: {أهؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا} [النساء: 51] {لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم} من العمل لمعادهم. ومحل {أن سخط} رفع على أنه مخصوص بالذم أي بئس الزاد إلى الآخرة سخط الله يعني موجب سخط الله وسببه، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وهو موسى وما أنزل إليه في التوراة كما يدّعون واتخذوا المشركين أولياء لأن تحريم ذلك متأكد في شريعة موسى {ولكن كثيرًا منهم فاسقون} في دينهم لأن مرادهم تحصيل الرياسة والجاه بأي طريق قدروا عليه لا تقرير دين موسى. ويحتمل أن يراد ولو كان هؤلاء اليهود المنافقون مؤمنين بالله وبمحمد والقرآن إيمانًا خالصًا ما اتخذوا المشركين أولياء ولكن كثيرًا منهم فاسقون متمردون في كفرهم ونفاقهم فلهذا يتولون المشركين. وقال القفال: ولو أن هؤلاء المشركين يؤمنون بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ما اتخذهم اليهود أولياء. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)}.
صَرَّحَ بأنَّ مُوَافِقَ مَنْ نَاوَءَكَ آثَرَ التباعدَ عنك؛ إذ لو كانت بينكما شَعْرَةٌ غيرُ مُنْقَطِعَةٍ لأخلصت في موالاته، وأخلصَ في مصافاتك. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}.
اللَّعْنُ: أَشَدُّ مَا يُعَبِّرُ اللهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ مَقْتِهِ وَغَضَبِهِ؛ فَالْمَلْعُونُ هُوَ الْمَحْرُومُ مِنْ لُطْفِهِ وَعِنَايَتِهِ، الْبَعِيدُ عَنْ هُبُوطِ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَقَدْ كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَعَنَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْهُمْ فِي السَّبْتِ، أَوِ الْعَاصِينَ الْمُعْتَدِينَ عَامَّةً، وَالْمُعْتَدِينَ فِي السَّبْتِ خَاصَّةً، ثُمَّ لَعَنَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ اللَّعْنِ مِنَ اللهِ الَّذِي اسْتَمَرَّ هَذَا الِاسْتِمْرَارَ عِصْيَانَهُمْ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَاعْتِدَاءَهُمُ الْمُمْتَدُّ الْمُسْتَمِرُّ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}.
وَقَدْ بَيَّنَ- جَلَّ ذِكْرُهُ- ذَلِكَ الْعِصْيَانَ وَسَبَبَ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى تَعَدِّي حُدُودِ اللهِ وَإِصْرَارَهُمْ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} أَيْ كَانُوا لَا يَنْهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ مُنْكَرٍ مَا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، مَهْمَا اشْتَدَّ قُبْحُهَا وَعَظُمَ ضَرَرُهَا، وَإِنَّمَا النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ حِفَاظُ الدِّينِ وَسِيَاجُ الْآدَابِ وَالْفَضَائِلِ، فَإِذَا تُرِكَ تَجَرَّأَ الْفُسَّاقُ عَلَى إِظْهَارِ فِسْقِهِمْ وَفُجُورِهِمْ، وَمَتَى صَارَ الدَّهْمَاءُ يَرَوْنَ الْمُنْكَرَاتِ بِأَعْيُنِهِمْ، وَيَسْمَعُونَهَا بِآذَانِهِمْ، تَزُولُ وَحْشَتُهَا وَقُبْحُهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ يَتَجَرَّأُ الْكَثِيرُونَ أَوِ الْأَكْثَرُونَ عَلَى اقْتِرَافِهَا. فَالْإِخْبَارُ بِهَذَا الشَّأْنِ مِنْ شُئُونِهِمْ إِخْبَارٌ بِفُشُوِّ الْمُنْكَرَاتِ فِيهِمْ، وَانْتِشَارِ مَفَاسِدِهَا بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْعِلَّةِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَعْلُولِ، وَلَوْلَا اسْتِمْرَارُ وُقُوعِ الْمُنْكَرَاتِ لَمَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ التَّنَاهِي شَأْنًا مِنْ شُئُونِ الْقَوْمِ، وَدَأْبًا مِنْ دُءُوبِهِمْ.
وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي تَفْسِيرِ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} (3: 104) الْآيَةَ، فَلْيُرَاجِعْ فِي (ص22 ج4 ط الْهَيْئَةِ) وَسَنَعُودُ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى).
{لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} هَذَا تَأْكِيدٌ قَسَمِيٌّ لِذَمِّ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، مُصِرِّينَ عَلَيْهِ، مِنِ اقْتِرَافِ الْمُنْكَرَاتِ، وَالسُّكُوتِ عَلَيْهَا، وَالرِّضَاءِ بِهَا، وَكَفَى بِذَلِكَ إِفْسَادًا.
ذَلِكَ شَأْنُهُمْ وَدَأْبُهُمِ الَّذِي مَرَدُوا وَأَصَرُّوا عَلَيْهِ، بَيَّنَهُ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ؛ عِبْرَةً لَهُمْ، حَتَّى لَا يَفْعَلُوا فِعْلَهُمْ، فَيَكُونُوا مِثْلَهُمْ، وَيَحِلَّ بِهِمْ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ وَغَضَبِهِ مَا حَلَّ بِهِمْ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ، فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللهَ، وَدَعْ مَا تَصْنَعُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ، ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ. فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرْبَ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إِلَى قَوْلِهِ: {فَاسِقُونَ} ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَلَّا وَاللهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، ثُمَّ لَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ يَلْعَنُكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ»، وَوَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى عِدَّةُ أَحَادِيثَ، فَهَلْ مِنْ مُعْتَبِرٍ أَوْ مُدَّكِرٍ؟! بَلْ رَأَيْنَا مِنْ آثَارِ غَضَبِ اللهِ تَعَالَى مِثْلَمَا رَأَى بَنُو إِسْرَائِيلَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، وَقَدْ عَرَّفَنَا سَبَبَهُ وَلَمْ نَتْرُكْهُ، وَنَرَاهُ يَزْدَادُ بِالْإِصْرَارِ عَلَى السَّبَبِ، وَلَا نَتُوبُ، وَلَا نَتَذَكَّرُ!! فَإِلَى مَتَى؟ إِلَى مَتَى؟!
ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ حَالًا مِنْ أَحْوَالِهِمُ الْحَاضِرَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ آثَارِ تِلْكَ السِّيرَةِ الرَّاسِخَةِ، فَقَالَ: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ تَرَى أَيُّهَا الرَّسُولُ، كَثِيرًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ، وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى قِتَالِكَ، وَأَنْتَ تُؤْمِنُ بِاللهِ، وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَتَشْهَدُ لَهُمْ بِالرِّسَالَةِ، وَأُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ لَا يُوَحِّدُونَ اللهَ تَعَالَى وَلَا يُؤْمِنُونَ بِكُتُبِهِ، وَلَا بِرُسُلِهِ مِثْلُكَ، فَكَيْفَ يَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَيُحَالِفُونَهُمْ عَلَيْكَ، لَوْلَا اتِّبَاعُ أَهْوَائِهِمْ، وَسَخَطُ اللهِ عَلَيْهِمْ؟ {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ} هَذَا ذَمٌّ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ لِعَمَلِ الْيَهُودِ الَّذِي قَدَّمَتْهُ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ؛ لِيَلْقَوُا اللهَ تَعَالَى بِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا هُوَ إِلَّا الْعَمَلُ الْقَبِيحُ الَّذِي أَوْجَبَ سَخَطِ اللهِ عَلَيْهِمْ. فَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ هُوَ ذَلِكَ السَّخَطُ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ، وَلَيْسَ أَمَامَهُمْ مَا يُجْزَوْنَ بِهِ سِوَاهُ، وَلَبِئْسَ شَيْئًا يُقَدِّمُهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ، فَسَيُجْزَوْنَ بِهِ شَرَّ الْجَزَاءِ {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} فَهُوَ مُحِيطٌ بِهِمْ، لَا يَجِدُونَ عَنْهُ مَصْرِفًا؛ لِأَنَّ النَّجَاةَ مِنَ الْعَذَابِ إِنَّمَا تَكُونُ بِرِضَاءِ اللهِ تَعَالَى وَهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا إِلَّا مَا أَوْجَبَ سَخَطَهُ.
{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} أَيْ وَلَوْ كَانَ أُولَئِكَ الْيَهُودُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْكَافِرِينَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ النَّبِيِّ الَّذِي يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ، وَهُوَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنَ الْهُدَى وَالْفَرْقَانِ، لَمَا اتَّخَذُوا أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ وَأَنْصَارًا؛ لِأَنَّ الْعَقِيدَةَ الدِّينِيَّةَ كَانَتْ تُبْعِدُهُمْ عَنْهُمْ، وَالْجِنْسِيَّةُ عِلَّةُ الضَّمِّ. وَفِي الْعِبَارَةِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ:
لَوْ كَانَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، مَا اتَّخَذَهُمُ الْيَهُودُ أَوْلِيَاءَ؛ أَيْ إِنَّهُمْ لَمْ يَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ إِلَّا لِكُفْرِهِمْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّوْجِيهَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ لَهَا عِلَّةٌ إِلَّا اتِّفَاقَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْكُفْرِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى حَرْبِ الرَّسُولِ وَإِبْطَالِ دَعْوَتِهِ، وَالتَّنْكِيلِ بِمَنْ آمَنَ بِهِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَذَهَبَ مُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ تَوَلَّاهُمُ الْيَهُودُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنَافِقُونَ، وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ كُفَّارٌ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، كَمَا يَدَّعُونَ، مَا اتَّخَذَهُمُ الْيَهُودُ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ، فَتَوَلِّيهُمْ إِيَّاهُمْ دَلِيلُ كَوْنِهِمْ يُسِرُّونَ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ نِفَاقًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مُوَالَاةِ الْمُنَافِقِينَ لِلْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ فِيمَا مَضَى مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمَا الْعَهْدُ بِهِ بِبَعِيدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْمُوَالَاةِ وَالتَّنَاصُرِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ.
فَالْيَهُودُ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ جَمِيعًا؛ لِلِاشْتِرَاكِ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَ مُجَاهِدٍ أَظْهَرُ إِلَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ بَيْنَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أَيْ خَارِجُونَ مِنْ حَظِيرَةِ الدِّينِ، مُنْسَلُّونَ مِنْهُ انْسِلَالَ الشَّعْرَةِ مِنَ الْعَجِينِ، وَالْقَلِيلُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي سِيرَةِ الْأُمَّةِ وَأَعْمَالِهَا، وَاللهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.من فوائد سيد قطب في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرًا ولا نفعًا والله هو السميع العليم}؟..
ويختار التعبير بكلمة «بما» بدل كلمة «من» في هذا الموضع قصدًا. ليدرج «المخلوقات» التي تعبد كلها- بما فيها من العقلاء- في سلك واحد. لأنه يشير إلى ماهيتها المخلوقة الحادثة البعيدة عن حقيقة الألوهية. فيدخل عيسى، ويدخل روح القدس، وتدخل مريم، كلهم في «ما» لأنهم بماهيتهم من خلق الله. ويلقي هذا التعبير ظله كذلك في هذا المقام؛ فيبعد أن يكون أحد من خلق الله مستحقًا للعبادة؛ وهو لا يملك لهم ضرًا ولا نفعًا:
{والله هو السميع العليم}.
الذي يسمع ويعلم؛ ومن ثم يضر وينفع. كما أنه هو الذي يسمع دعاء عبيده وعبادتهم إياه، ويعلم ما تكنه صدورهم وما يكمن وراء الدعاء والعبادة.. فأما ما سواه فلا يسمع ولا يعلم ولا يستجيب الدعاء..
وينهي هذا كله بدعوة جامعة، يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوجهها إلى أهل الكتاب: {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا. وضلوا عن سواء السبيل}.
فمن الغلو في تعظيم عيسى عليه السلام جاءت كل الانحرافات. ومن أهواء الحكام الرومان الذين دخلوا النصرانية بوثنيتهم، ومن أهواء المجامع المتناحرة كذلك دخلت كل تلك المقولات على دين الله الذي أرسل به المسيح، فبلغه بأمانة الرسول، وهو يقول لهم: {يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم. إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار}.
وهذا النداء الجديد هو دعوة الإنقاذ الأخيرة لأهل الكتاب؛ ليخرجوا بها من خضم الانحرافات والاختلافات والأهواء والشهوات الذي خاض فيه أولئك الذين ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل..
ونقف من هذا المقطع الذي انتهى بهذا النداء أمام ثلاث حقائق كبيرة، يحسن الإلمام بها في إجمال:
الحقيقة الأولى: هي حقيقة هذا الجهد الكبير، الذي يبذله المنهج الإسلامي، لتصحيح التصور الاعتقادي، وإقامته على قاعدة التوحيد المطلقة؛ وتنقيته من شوائب الوثنية والشرك التي أفسدت عقائد أهل الكتاب، وتعريف الناس بحقيقة الألوهية؛ وإفراد الله سبحانه بخصائصها، وتجريد البشر وسائر الخلائق من هذه الخصائص..
وهذا الاهتمام البالغ بتصحيح التصور الاعتقادي، وإقامته على قاعدة التوحيد الكامل الحاسم، يدل على أهمية هذا التصحيح. وأهمية التصور الاعتقادي في بناء الحياة الإنسانية وفي صلاحها، كما يدل على اعتبار الإسلام للعقيدة بوصفها القاعدة والمحور لكل نشاط إنساني، ولكل ارتباط إنساني كذلك.
والحقيقة الثانية: هي تصريح القرآن الكريم بكفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم؛ أو قالوا: إن الله ثالث ثلاثة: فلم يعد لمسلم- بعد قول الله سبحانه- قول. ولم يعد يحق لمسلم أن يعتبر أن هؤلاء على دين الله. والله سبحانه يقول: إنهم كفروا بسبب هذه المقولات.
وإذا كان الإسلام- كما قلنا- لايكره أحدًا على ترك ما هو عليه مما يعتقده لاعتناق الإسلام، فهو في الوقت ذاته لا يسمي ما عليه غير المسلمين دينًا يرضاه الله. بل يصرح هنا بأنه كفر ولن يكون الكفر دينًا يرضاه الله.